الخميس، 29 نوفمبر 2012

اتجاهات المحاسبة المالية المعاصرة وانعكاساتها على البيئة الليبية

اتجاهات المحاسبة المالية المعاصرة وانعكاساتها على البيئة الليبية
د. سالم إسماعيل الحصادي
مقدمة :
تمشياً مع التوجهات الجديدة للمجتمع الليبي ، المتمثلة في الاتجاه نحو خصخصة القطاع العام وتشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي وإنشاء سوق للأوراق المالية وتبنى كل من القطاع المصرفي وسوق الأوراق المالية المعايير المحاسبية الدولية ، برزت الحاجة إلى التحري عن أوضاع المحاسبة المالية في البيئة الليبية وتحديد مدى تأثرها (الإيجابي أو السلبي) باتجاهات المحاسبة المالية المعاصرة .
وكنقطة انطلاق في هذا الاتجاه ، فإن المتتبع لواقع المحاسبة المالية في البيئة الليبية يمكن أن يستخلص ضعف التجربة الليبية ، بالأخص في المجال المهني ، وأن الجهود المبذولة في الوقت الحاضر لا تخرج عن كونها محاولات مبعثرة وجهود فرعية غير قادرة على النهوض بالمحاسبة ورفع مستوى الأداء المهني أسوة بما يحدث في الكثير من دول العالم.
هذا الواقع دفع الباحث إلى التعامل مع فكرة تبنى سياسة عامة في المجتمع الليبي تتعلق بالمجال المحاسبي وتهدف إلى وضع برامج جدية تقود إلى الرفع من مستوى الفكر والأداء المهني للمحاسبة كونها أداة مهمة في تحقيق تنمية اقتصادي واجتماعية حقيقية . ولكن وضع سياسة عامة ناجحة في المجال المحاسبي يتطلب فهم أعمق لتعقيدات المحاسبة المعاصرة حيث أنها تمثل ظاهرة تتشكل بواسطة القيم الثقافية السائدة والهياكل المؤسساتية والظروف الاجتماعية والتاريخية المحيطة بالمجتمعات التي تعمل فيها ، وذلك بدلاً عن اعتبارها ظاهرة فنية منعزلة يمكن استيرادها من الخارج .
هذه الحقيقة تناظرها حقيقة أخرى وهي أن ليبيا كدولة نامية أكثر احتياجا للمحاسبة المالية المعاصرة لإحداث تنمية اقتصادية واجتماعية في مجتمع يعاني من محدودية الموارد الاقتصادية (على الأقل في المدى الطويل ) ، علاوة على سوء استخدام للمتاح منها في الوقت الحاضر**
وعليه، فإن المشكلة البيئية لهذه المقالة تتمحور حول تهيئة البيئة الليبية للدخول في معركة تطوير الفكر والعمل المحاسبي وبالشكل الذي يحقق الغايات المنشودة .
مشكلة الدراسة ومنهجيتها :
إن تطور المحاسبة الحديثة ، في الدول المتقدمة ، تطلب جهوداً غير عادية خلال القرن الماضي ومازالت هذه الجهود مستمرة حتى وقتنا الحاضر ، ولهذا فإن الانتظار إلى أن تتبلور المحاسبة في ليبيا وبشكل طبيعي اتجاه المحاسبة الحديثة يكاد يكون أمراً مستحيلاً أو على الأقل يتطلب كثيرا من الوقت .
وعليه، فإن التعامل مع واقع المحاسبة في ليبيا يتطلب نوع من التدخل المكثف والمدروس لإحداث طفرة تساعد على كسب الوقت وتوفير الجهد من قبل أصحاب المصلحة الحقيقية في رفع مستوى الفكر والعمل المحاسبي ( جميع فئات المجتمع الليبي ) . غير أن حدوث مثل هذه الطفرة يتطلب توفر ما يمكن تسميته " بنية مؤسساتية متوازنة" تتمثل في مجموعة الأطر القانونية والتنظيمية والمحاسبية اللازمة لتطوير الفكر والعمل المحاسبي في ليبيا .
تباعا ، فإن هذه الورقة تمثل محاولة لاستكشاف المتطلبات الأساسية لهذه البنية المؤسساتية المتوازنة للتحول اتجاه المحاسبة المعاصرة ، مع التركيز على مجال المحاسبة المالية واعتبار المراجعة جزء أصيل من نظام القياس المحاسبي وبدون الدخول في كثير من التفاصيل والجوانب الفنية حتى تكون الدراسة في حدود ورقة بحثية .
أما من الناحية المنهجية ، فإنه وبالاعتماد على أسلوب التحليل المنطقي ، للمكونات الأساسية لبيئة المحاسبة المعاصرة وتطبيقاتها الميدانية في مجال الدراسة المقارنة ، يمكن الوصول إلى تحديد المتطلبات الأساسية اللازمة للتحول اتجاه المحاسبة المالية المعاصرة. وعليه فإن محتويات هذه الورقة يمكن تنظيمها في ثلاثة محاور رئيسية ، حيث يشتمل المحور الأول على تحديد الإطار العام ( في شكل نظام) للمكونات الأساسية لبيئة المحاسبة المعاصرة وربطها بالتطبيقات الميدانية في كل من الولايات المتحدة الأمريكية (كنظام مميز) والتجربة الفرنسية (كنظام بديل) والتجربة الدولية المشتركة ( كنظام مشترك) . وفي حين ، يركز المحور الثاني على طرح عام للتجربة الليبية وتقييمها في ضوء نموذج المحاسبة المعاصرة، فإن المحور الثالث يتضمن حصر للنتائج وما يمكن أن يستخلص من توصيات .
المحور الأول : بيئة المحاسبة المالية المعاصرة وتطبيقاتها :
بالرغم من تعقيدات بيئة المحاسبة المعاصرة ، إلا أن التعامل معها من منظور شمولي يمكن أن يساعد في تصورها كنظام له مدخلات يتطلب تشغيلها ضوابط وممارسات تؤدي إلى إنتاج تقارير مالية مفيدة (مخرجات) . ولكي يحقق هذا النظام متطلبات هذه الورقة يجب أن يراعى ثلاثة شروط وهي :
أن يكون النظام منطقي وموضوعي لضمان توسيع دائرة قبوله .
أن يتميز النظام بالبساطة من حيث العرض والشمولية من حيث المحتوى لضمان توسيع دائرة فهمه وبدون الدخول في التفاصيل .
أن يكون النظام قابلا للاستخدام كأداة تحليلية ( إطار مرجعي) في مجال هذه الورقة وفي حدود متطلباتها .
ويقترح الأدب المحاسبي نموذجاً مبدئيا يمكن تطويره لخدمة الأهداف المر جوه (أنظر الشكل رقم (1) ) .
وفي هذا الاتجاه ، يوضح الشكل رقم (1) نموذجاً مقترحاً لبيئة المحاسبة المعاصرة كنظام (في دولة معينة ) والذي يعكس حقيقة أن الاندماج بين الأفكار والآراء والظروف يولد سياسات محاسبية وفقاً لضوابط عامة والتي بدورها تمارس من قبل المحاسبين وتحكم وظيفة تقديم التقارير المالية للمستخدمين . كما أن الشكل يبين وظيفة كل من التعليم المحاسبي ( كمصدر للموارد البشرية) ووظيفة المراجعة المالية ( كأداة رقابية) ، علاوة على أن الشكل يوضح نوعين من الخطوط في النموذج هما : متصلة وتعني تدفقات رئيسية ومتقطعة وتعني تدفقات فرعية . وهنا يرى الباحث ضرورة الوقوف عند مصطلح " عوامل سياسية" كأحد مدخلات وضع السياسات المحاسبية . هذا المصطلح يشير إلى التأثير على وضع السياسة المحاسبية من قبل هؤلاء المعنيين بها وأصحاب التأثير عليها بحكم القانون أو تحت أية مظلة أخرى . ومن منظور المحاسبة المالية المعاصرة ، فإن هذه الفئة تتضمن المشتغلين بالمحاسبة والمراجعة ، الأكاديميين ،المستثمرين (ملاك وأصحاب التزامات) المحللين الماليين ، إدارات الشركات الكبيرة  ، أجهزة الدولة المعنية ( كممثلة عن المجتمع ) وأخيرا الجمهور والجدير بالذكر ، أن المحاسبة المعاصرة في المجتمعات المتقدمة تطورت في ظل أوضاع سمحت بوجود تفاوت في النفوذ والأدوار بين هذه الأطراف المختلفة( خاصة / عامة ( .
الشكل رقم 1
بيئة المحاسبة المالية المعاصرة كنظام*
    * Source with modification:  Wolk , H. & M. Tearney (1997) , P. 4-6 .    
وفي هذا الخصوص ، يقترح الأدب المحاسبي في مجال الدراسات المقارنة بروز نموذجين تعزى الاختلافات بينهما إلى الاختلافات في الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين تلك الدول، أو على الأقل بسبب ما يعرف بمناطق النفوذ المحاسبي . 
وهذين النموذجين هما : (1) النموذج الأنجلو أمريكان ممثلا في هذه الورقة بالتجربة الأمريكية ، (2) النموذج القاري ممثلا في هذه الورقة بالتجربة الفرنسية .
وبالإضافة إلى هذين النموذجين فقد برز في الثلاثة عقود الأخيرة ما يمكن تسميته بالنموذج الدولي المشترك والذي لا يخرج عن كونه حصيلة للتنسيق والتوافق الدولي بين النموذجين المذكورين أعلاه ، وذلك لمعالجة القوائم المالية المجمعة الخاصة بالشركات متعددة الجنسية والشركات التي تطرح أوراقها المالية للتداول على مستوى أسواق الأوراق المالية العالمية.
وفي ضوء ما تقدم ، يمكن التحول إلى الجانب التطبيقي وذلك لمناقشة كل من التجربة الأمريكية (كنظام مميز) ، التجربة الفرنسية ( كنظام بديل) والتجربة الدولية المشتركة (كنظام مشترك) ، مع تقديم نبذة تاريخية عن كل نموذج من النموذجين الأساسيين(1( :
أولا : التجربة الأمريكية :
تعتبر التجربة الأمريكية من أغنى وأعمق التجارب في مجال المحاسبة بجميع فروعها وتمثل أوضح حاله ، من حيث المنطلقات والخصائص ، للنموذج الأنجلو أمريكان والذي ترجع جذوره إلى المدرسة البريطانية . هذا النموذج تبلور في ظل ظروف بيئية تميزت بسيطرة القطاع الخاص على النشاط الاقتصادي ، حضور قوى للمنظمات المهنية ، الاعتماد على أسواق رأس المال كمصدر للتمويل، مما أدى إلى التركيز على قياس الدخل لخدمة المستثمرين، الابتعاد عن وضع قيود على الدخل القابل للتوزيع وتطوير المحاسبة كمنهج معرفة مستقل
ومن منظور شمولي (بعيداً عن التفاصيل) ، مع الالتزام بنطاق مجال المحاسبة المعاصرة، يمكن تجزئة التجربة الأمريكية إلى مرحلتين هما : مرحلة ما قبل مجلس معايير المحاسبة المالية (FASB) ومرحلة ما بعد (FASB) .
أ )  مرحلة ما قبل (FASB) :
تمتد هذه المرحلة من عام (1929) حتى عام (1972) وتعتبر مرحلة تمهيدية للتحول إلى الاتجاه الحديث في مجال المحاسبة المعاصرة على الساحة الأمريكية . فحدوث الانهيارات في أسواق الأوراق المالية الأمريكية عام (1929) وما تبعها من انعكاسات على بقية دول العالم الغربي ، وضعت الحكومة الفدرالية ومهنة المحاسبة على المحك فيما يتعلق بحماية المستثمرين وبقية الأطراف المعنية في ذلك المجتمع . هذه الأوضاع تطلبت التعامل الفعال مع مفهومين يمثلان الأساس في بروز نظرية المنشأة وهما : المسئولية المحدودة للملاك ومبدأ استمرارية المنشأة .
وفي هذا الخصوص ، يقول أحد المفكرين  في مجال المحاسبة ما يلي :
"غياب مسئولية المالك واستمرارية المنشأة كانت الخصائص الرئيسية للمنشأة التي أدت إلى بروز نظرية المنشأة ... المحاسبة في ظل نظرية المنشأة تهتم بتقديم التقارير لكل أصحاب المصلحة المعنيين الذين ساهموا بإمكانياتهم في تشغيل المنشأة"(1)
وكذلك ظهرت الحاجة إلى تعاون ثلاثة أطراف مهمة في مجال الفكر والعمل المحاسبي ، وبالتحديد ، الدولة وأصحاب المهنة وأصحاب الفكر . وفيما يلي طرح لأهم مساهمات هذه الأطراف في مجال الأطر القانونية والمؤسسات التنظيمية الممثلة لهذه الأطراف في خلال مرحلة ما قبل (FASB) .
الدولة وأجهزتها :
شهدت بداية هذه المرحلة تدخل الدولة الأمريكية وبشكل غير مألوف في مجال المحاسبة المالية وذلك بإصدار جهازها التشريعي ( الكونجرس) لقانونيين هما(2) :
قانون (1933 ) بشأن إصدار الأوراق المالية والذي يهدف في الأساس إلى إمداد المستثمرين بكل المعلومات المهمة ( مالية أو غير مالية) ومنع التلاعب والخداع وأعمال الغش في عملية بيع هذه الأوراق .
قانون (1934) بشأن تداول الأوراق المالية والذي يهدف في الأساس إلى توسيع مفهوم الإفصاح الكامل والعادل ، إلزام الشركات بتقديم تقارير دورية وتسجيل وتنظيم عمليات تداول الأوراق المالية وأعمال الوسطاء ، وذلك لكل الشركات المسجلة في أسواق الأوراق المالية الأمريكية ، مع تأسيس لجنة تداول الأوراق المالية (SEC) لإدارة هذين القانونيين .
وتعتبر هذه التشريعات الأولى على مستوى جميع الولايات الأمريكية في مجال الأوراق المالية ، كي أنها تعتبر تفويضاً لـ (SEC) بتحديد شكل ومحتوى التقارير المالية وغيرها الواجب تقديمها وفقا لنماذج خاصة باللجنة*
وفي عام (1938) أصدرت الـ (SEC) عبر سلسلة أصدرتها المحاسبية الإصدار رقم (ASR No.4) والذي يفهم من محتواه أن على مهنة المحاسبة تأسيس كيان يخول بتطوير المعايير المحاسبية وإلا فإن الـ (SEC) ستحدد الممارسات المحاسبية المقبولة وتعرض الطرق الواجب استخدامها في التقارير المقدمة إليها وقد أكد هذا الإصدار على ضرورة اعتماد التقارير المقدمة لـ (SEC) من مراجع ومستقل مما دعم من موقف المهنة ودفع إلى تطويرها وذلك من خلال السماح للمهتمين بتنظيم المحاسبة وإصدار ما يلزم من قواعد قياس وإفصاح محاسبية ، مع الاحتفاظ بحق الـ (SEC) في التدخل أو إصدار ما تراه مناسبا من متطلبات إضافية . وعليه فإن الـ (SEC) رأت أن تلعب دور المرشد والمراقب ، مع وجود بعض الاستثناءات ، فيما يتعلق بالمبادئ المحاسبية المتعارف عليها (GAAP) واستمر هذا الدور حتى وقتنا الحاضر(1) .
ومن الناحية التنظيمية ، فإن الـ (SEC) تعتبر هيئة عامة مستقلة عن الإدارة الأمريكية ولا تخضع لتأثير مباشر على سياستها من الكونجرس وتتكون من خمسة أعضاء متفرغين ، يرشحهم رئيس الولايات المتحدة ( لمدة خمس سنوات) ويعتمدهم الكونجرس لضمان الاستقلالية ، كما تضم أكثر من 3000 عامل على سبيل التفرغ حسب آخر الإحصائيات . وفي ظل وجود الـ (SEC) حدثت عملية اندماج مهمة في عام (1936)بين جمعية المحاسبية الأمريكية وجمعيات المحاسبين المعتمدين الأمريكية على مستوى الولايات  نتج عنها تشكيل تنظيم جديد أكبر حجما تحت اسم جمعية المحاسبين العموميين الأمريكية (AAPA) والتي تغيرت لتصبح جمعية المحاسبين المعتمدين الأمريكية ( AICPA) عام (1957) والمعروفة به في وقتنا الحاضر(2) .
وفي مجال المراجعة المالية ، قامت المهنة بتأسيس لجنة إجراءات المراجعة عام (1939) واعتمدت معايير المراجعة المتعارف عليها (GAAP) في عام (1947) وعددها (10) معايير رئيسية مثلت قواعد عامة تحكم أعمال المراجعة .
وقد قامت لجنة إجراءات المراجعة خلال الفترة من (1939) إلى (1972) بإصدار (51) منشوراً إجرائيا    SAP) وفي عام (1972) استبدلت لجنة إجراءات المراجعة (CAP) بلجنة إدارة معايير المراجعة (ASEC) التي مازالت مستمرة حتى وقتنا الحاضر وأصدرت العشرات من الإيضاحات في مجال المراجعة المالية .
مؤسسات فكرية وأخرى :
تعتبر جمعية المحاسبة الأمريكية (AAA) المؤسسة الرائدة في مجال الفكر المحاسبي وقد تأسست عام (1935) ، مع العلم بأن جذورها ترجع لسنة (1916) . وتضم هذه الجمعية طائفة المفكرين المهتمين بالبحوث والآفاق المستقبلية في مجالي نظرية المحاسبية والتعليم المحاسبي وتتضمن هذه الطائفة أساتذة المحاسبة وغيرهم من المهتمين بالبحوث العلمية من أفراد ومنظمات ( ومكاتب محاسبة وشركات صناعية لديها اهتمام بالبحث العلمي وغيرها من المؤسسات العلمية ) . ومنذ تأسيسها قامت الـ (AAA) بإصدار العديد من التقارير منها ما يتعلق بالمبادئ والأساليب المحاسبية ومنها ما يتعلق بنظرية المحاسبة ، كما تصدر الجمعية مجلة ربع سنوية تعرف بـ (The Accounting Review ) تعتبر إحدى أهم المجلات العالمية في مجال المحاسبة ويرافقها عدد إضافي سنوي يتضمن تقارير بحوث اللجان الفرعية ذات العلاقة بنظرية المحاسبة .
وبالإضافة إلى (AAA) هناك عدة منظمات ساهمت في إثراء الفكر والعمل المحاسبي  نذكر منها ما يلي :
مؤسسة بحوث المدراء الماليين ( FERF) وتتبع لجمعية المدراء الماليين ( FEI) التي أسست عام (1931) وقد ساهمت هذه المؤسسة في العديد من البحوث والدراسات في مجالات ذات علاقة بالمحاسبة ، علاوة على مساهمتها الدورية في الردود على مشروعات الإصدارات المحاسبية .
جمعية المحاسبين الإداريين (IMA) المتخصصة في نشر بحوث وتقارير في مجالي محاسبة التكاليف والمحاسبة الإدارية ، علاوة على تنظيم مهنة المحاسبين الإداريين وإصدار شهادات محاسب إداري معتمد (CMA) بداية من عام (1972). وفي السنوات الأخيرة ، بدأت (IMA) الاهتمام بالتقارير المالية وشكلت لجنة متخصصة في مفاهيم التقارير المالية ، علاوة على التعامل مع الإصدارات في مجال المحاسبة المالية .
ب ) مرحلة ما بعد ( FASB)
نتيجة لتعرض مجلس مبادئ المحاسبة (APB) للعديد من الانتقادات ، بالأخص تلك المتعلقة باستقلالية المجلس وعدم السرعة في التعامل مع المشاكل المتزايدة والمعقدة ، تبنت الـ (AICPA) نتائج تقرير يعرف بـ Wheat Report  * (1973) . ويتضمن هذا التقرير التوصية بتأسيس مؤسسة المحاسبة المالية ( FAF)  يتبعها كل من مجلس معايير المحاسبة المالية  ( FASB) هيئة استشارية لمعايير المحاسبة المالية ( FASAC)(1) .
وفي عام 1977 تبنت مؤسسة المحاسبة المالية ( FAF) هيكلية عمل وعلاقات يلخصها الشكل رقم (2) وتخص (FASB) وبقية الأطراف ويمثل هذا الشكل تحويراً لتصور طرح في الأدب المحاسبي (أنظر الشكل رقم (2)) .
وتهدف هذه التغيرات ، بالإضافة إلى تحقيق مشاركة أوسع ، ضمان استقلالية (FAF) عن المهنة ممثلة في ( AICPA) فيما يخص الإشراف على إصدار معايير المحاسبة المالية ، مع احتفاظ الـ ( AICPA) بصلاحياتها كاملة في مجال قواعد المراجعة المالية . وبذلك انتقلت مسؤولية وضع الإصدارات المحاسبية من الـ ( AICPA) إلى (FASB).
وأخيراً ، فإنه تبين مما سبق طرحه ، مدى ثراء وعمق وتطور التجربة الأمريكية في مجال المحاسبة وأن الاتجاه نحو بنية مؤسساتية متوازنة هو السائد خلال الأربعة عقود الماضية. كما أن هناك مجموعة من الدروس الإضافية يمكن استخلاصها من هذه التجربة الأمريكية وهي :
1.      بالرغم من إن المحاسبة على الساحة الأمريكية تطورت في ظل القطاع الخاص ، إلا أن الدولة لعبت دور الداعم والمشرف والمراقب ، مع وجود بعض الاستثناءات بالتدخل المباشر ، في مسيرة هذا التطور وذلك من خلال الـ (SEC).
2.      توفر الوعي الاجتماعي بأهمية المحاسبة ، كنتيجة للعديد من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، أدى إلى انتشار الفكر المؤسسي في فئات المجتمع الأمريكي المعنية بالفكر والعمل المحاسبي من مراجعين محاسبين ، أكاديميين ، محللين ماليين، مدراء ماليين ، رجال أعمال . اقتصاديين ، وسطاء ماليين ...الخ .
3.      في التجربة الأمريكية ، تطورت المحاسبة كمنهج معرفة مستقل مما ساهم في الاعتماد وبشكل واسع على الاستنتاجات المنطقية من الدراسات والبحوث المعتمدة في مجال المحاسبة.
4.      تميزت التجربة الأمريكية بحضور مهني وفكري ، يعملان في ظل ظروف بيئية يسيطر عليها البعد الفردي ، تعتمد على أسواق الأوراق المالية كمصدر للتمويل ، مما سمح باعتبار المستثمرين مركز اهتمام القوائم المالية وأن المبادئ المحاسبية يجب أن تقود إلى تقديم صورة عادلة أو حقيقة عادلة .
الشكل رقم (2)
هيكلية العلاقة بين (FASB) وجمهور الناخبين*
Source with minor modification: Wolk , H. & M.Tearney (1997) , P. 71.
ثانيا : التجربة الفرنسية(1) :
تمثل التجربة الفرنسية مدرسة فكرية مختلفة عن المدرسة الأمريكية فيما يخص وضع السياسات المحاسبية ، حيث يعتمد النظام الفرنسي في تنظيم المحاسبة على القوانين والمراسيم التي تصدرها الجهات المختصة بالدولة الفرنسية ، بدلا من الاعتماد على القطاع الخاص .
هذا الاتجاه ، انعكس بوضوح في اعتماد البرلمان الفرنسي عام (1947) ما يعرف بالخطة العامة للمحاسبات ( PCG) وقد عدلت هذه الخطة عدة مرات آخرها عام (2001) لتعكس الكثير من التغيرات التي من بينها التنسيق الأوربي والدولي في مجال المحاسبة . وفي وضعها الحالي ، تحتوي الـ ( PCG) على مرشد مفصل يتضمن ما يلي :
دليل حسابات قومي موحد .
تعريف وشرح للمصطلحات المحاسبية .
تفسير بعض الأحداث والمعاملات الخاصة وكيفية معالجتها محاسبيا .
نماذج موحده للقوائم المالية ومتطلبات السلطات الضريبية .
متطلبات المحاسبة الإدارية (محاسبة التكاليف) .
وتجدر الإشارة هنا ، إلى أن التجربة الفرنسية تميزت بقدر كافي من العقلانية في المجال المحاسبي ، فمن ناحية ، سمح المشرع الفرنسي للمهتمين بالمحاسبة ، وبالأخص المحاسبين والمراقبين ، من ممارسة تأثيرهم على التشريعات المحاسبية قبل إصدارها . ومن ناحية أخرى ، لا ينظر للتشريعات في المجال المحاسبي على أنها معايير مطلقة وإنما تمثل أساليب قابلة للتعديل والتكييف مع الظروف بشرط التنسيق المسبق مع الجهات ذات الاختصاص للحصول على الموافقة بإجراء التعديل .
في عام (2000) ، جمعت كل التشريعات المتعلقة بالمحاسبة في القانون التجاري الفرنسي . استنادا على هذه التشريعات ، فإن الدولة الفرنسية هي المسئولة عن وضع السياسات المحاسبية وأن هذه التشريعات تمثل في مجموعها المبادئ المحاسبية المتعارف عليها ، مع ملاحظة أن التجربة الفرنسية تنطلق من الأخذ بآراء المتخصصين وأصحاب المصالح عند وضع التشريعات المحاسبية وذلك من خلال ثلاث منظمات عامة هي :
1.      لمجلس الوطني للمحاسبة ( CNC) :
يتبع هذا المجلس وزير المالية ويتكون حاليا من (58) عضو يمثلون المحاسبين والمراجعين ، ممثلين عن أجهزة الدولة وموظفي الشركات والاتحادات التجارية ..الخ . وتختص الـ (CNC) بالمحافظة على تطبيق الخطة العامة للمحاسبات واعتماد التصنيفات المختلفة للصناعات وتقديم المقترحات والتعديلات التي ترفع لوزارة المالية للعمل على ترجمتها في شكل قانوني وذلك حتى عام (1998) .
2.      لجنة تنظيم المحاسبة ( CRC) :
تتبع هذه اللجنة وزارة المالية وقد أسست عام (1998) لتمثل الإطار القانوني المسئول عن إصدار المراسيم المتعلقة بالمحاسبة . وتتكون الـ (CRC) من خمسة عشر عضوا برئاسة وزير المالية وعضوية وزير العدل ووزير الميزانية ( أو من ينوب عنهم) ، رؤساء لجان المحاسبة الأخرى بما فيها المحاسبون والمراجعون ولجنة معاملات البورصة ، وممثل عن المحاسبة الحكومية وممثل عن محكمة الإدعاء وثلاثة ممثلين عن رجال الأعمال وممثلين عن الاتحادات العمالية .
3.      لجنة معاملات البورصة (COB)
تتبع هذه اللجنة لرئيس الجمهورية مباشرة، وقد أسست عام (1967) بأمر حكومي ودعم دورها بعدة قوانين لاحقة وتمثل مؤسسة عامة مستقلة عن الحكومة الفرنسية وتقوم الـ (COB) بتقديم مقترحات عن متطلبات البورصة ، وبالأخص فيما يتعلق بنشر المعلومات المالية في أسواق الأوراق المالية ومتابعة أية انحرافات في تنفيذ التعليمات . وفي الواقع ، فإن هذه اللجنة تمثل صورة مصغرة لدور الـ (SEC) في التجربة الأمريكية . وقد ساهمت هذه اللجنة في تفعيل التنسيق على المستويين الأوروبي والدولي ، علاوة على تحسين جودة المعلومات بالقوائم المالية المجمعة في الساحة الفرنسية .
وبالإضافة إلى المنظمات السابقة ، فإن التجربة الفرنسية ، على مستوى المنظمات المهنية ، تفصل بين منظمتين هما :
1- منظمة خبراء المحاسبة ( OEC)
تهدف هذه المنظمة إلى الدفاع عن شرف واستقلالية المحاسبين ( معدي القوائم المالية) المنتسبين إليها وقد أنشئت بأمر حكومي عام (1945) وأجريت على نظامها ثلاثة تعديلات (1968 ، 1994 ، 1995) . تخضع هذه المنظمة لرعاية وإشراف وزارة المالية وتهتم بمراقبة منتسبيها من الناحية المهنية والأخلاقية . وقد ساهمت هذه المنظمة في تطوير الأداء المحاسبي وذلك من خلال عضوية رئاستها وبعض من منتسبيها في ( CNC) و ( CRC) المشار إليها سابقا .
2- الاتحاد الوطني للمراجعين القانونيين ( CNCC) :
ينظم هذا الاتحاد مرسوم صادر بشأنه في عام (1969) ويخضع لرعاية وزير العدل ويضم المراجعين المعتمدين بالساحة الفرنسية . ومن أهم مهام هذا الاتحاد ، إصدار معايير المراجعة والإيضاحات المتعلقة بها وإصدار منشورات دورية تقدم مساعدة فنية للمراجعين . ويساهم هذا الاتحاد في تطوير الأداء المحاسبي من خلال عضوية رئاسته وبعض منتسبيه في  CNC)) و ( CRC) المشار إليها سابقا . وبالإضافة إلى قيام المراجع بمهام المراجعة المالية فإن المراجع الفرنسي ( كمراجع قانوني ) مطالب بإخطار النائب العام عن أية مخالفات أو جرائم يلاحظها أثناء القيام بأعمال المراجعة ( ما لم تتخذ إجراءات لتصحيحها ) ، علاوة على تقديم رأي واضح فيما يخص أية مشاكل تواجه الشركة المعنية من حيث القدرة على تسديد أصحاب الالتزامات.
ويمثل الشكل رقم (3) محاولة لصياغة العلاقات بين (CRC) وبقية أطراف المجتمع في مجال التجربة الفرنسية .
مما تقدم ، يتضح مدى ضخامة الجهود المبذولة ، في الساحة الفرنسية ، للوصول إلى بنية مؤسساتية متوازنة في مجال العمل المحاسبي وأن هذه الجهود توجت بتأسيس لجنة تنظيم المحاسبة ( CRC) عام 1998 . وبالإضافة إلى ما تقدم ، فإن هناك مجموعة من الدروس يمكن استخلاصها من التجربة الفرنسية وهي :
  • بالرغم من أن المحاسبة على الساحة الفرنسية تطورت في ظل الإشراف المباشر للدولة ، إلا أن العقلانية السائدة في المجتمع الفرنسي سمحت بنجاح التجربة الفرنسية وذلك من خلال إتاحة مجال واسع للمتخصصين في المجال الفكري والمهني للمساهمة في إثراء التجربة الفرنسية
  • إن للنموذج القاري ذو الجذور اللاتينية انعكاسات على النموذج الأنجلو أمريكان في العديد من المجالات مثل فكرة لجان المراجعة ومفهوم الحوكمة المؤسساتية وتهديدات الـ (SEC) بالتدخل المباشر لا تخرج عن كونها أفكار ومفاهيم ذات جذور لاتينية .
  • توفر الوعي الاجتماعي بأهمية المحاسبة ساهم في انتشار الفكر المؤسسي في المجتمع الفرنسي برعاية الدولة الفرنسية وبالاعتماد على سيطرة البعد الاجتماعي كأحد القيم السائدة في المجتمع الفرنسي مما أدى إلى اعتبار المجتمع هو المستخدم الرئيسي للقوائم المالية ممثلا في أصحاب الالتزامات ، الجهات الضريبية ، المستثمرين وغيرهم .
  • اعتماد الأنشطة الاقتصادية في المجتمع الفرنسي على الاقتراض من المصارف كمصدر للتمويل والانفصال القانوني بين الملاك والوحدات الاقتصادية الحديثة ( نظرية المنشأة) ، كانت ومازالت من ضمن مبررات الارتباط بين المحاسبة والقانوني والميل نحو مبدأ الحيطة والحذر وتخفيض الدخل القابل للتوزيع لحماية أصحاب الالتزامات .
شكل رقم (3)
هيكلية العلاقة بين لجنة تنظيم المحاسبة وبقية الأطراف*
*  المصدر: الباحث
ثالثا : التجربة الدولية :
قامت التجربة الدولية المشتركة على ما يعرف بالتنسيق والتوافق المحاسبي على مستوى دولي . ففي عام (1973) شكلت لجنة معايير المحاسبة الدولية ( IASC) بواسطة هيئات محاسبية مهنية في تسع دول هي : الولايات المتحدة الأمريكية ، المملكة المتحدة البريطانية ، فرنسا ، ألمانيا ، هولندا ، المكسيك ، اليابان ، استراليا ، وكندا ، في حين ، تمثل هذه اللجنة الآن أكثر من (150) منظمة محاسبية في أكثر من (100) دولة .
وخلال الفترة ما بين (1987) و (1998) ، أخذت لجنة معايير المحاسبة الدولية خطوات جادة في اتجاه التعاون مع اللجنة الدولية لاتحاد البورصات العالمية ( IOSLO) وقد أدت المباحثات بين الطرفين إلى إجراء تعديلات في كثير من المعايير الدولية الصادرة حتى (1998) وذلك مقابل عرض بقبول معايير المحاسبة الدولية في البورصات العالمية في مرحلة لاحقة . وحتى عام (2000) قامت لجنة معايير المحاسبة الدولة بإصدار ما مجموعة (41) معيارا محاسبيا يتبعها (33) تفسيراً . ويلاحظ على هذه المعايير وما أجرى عليها من تعديلات الميل الواضح نحو النموذج الأنجلو أمريكان ، وفي بداية عام (2000) وافقت لجنة معايير المحاسبة الدولية على دستور جديد يتضمن إعادة هيكلة في ظل الأهداف التالية(1):
تطوير معايير المحاسبة الدولية التي توفر معلومات قابلة للمقارنة وشفافة وذات جودة عالية تساعد المشاركين في أسواق رأس المال وغيرهم على اتخاذ القرارات الاقتصادية .
تشجيع استخدام معايير المحاسبة الدولية بالعمل مع واضعي المعايير القومية في الدول الأعضاء بالاتحاد الدولي للمحاسبين .
وفي هذا الاتجاه ، تبنت لجنة معايير المحاسبة الدولة عام (2001) تغيرات هيكلية جوهرية أدت إلى قطع علاقاتها السابقة مع المنظمات المهنية التي أنشأتها وذلك من خلال تأسيس مؤسسة لجنة معايير المحاسبة الدولية ( IASCF) تمول عن طريق مساهمات طوعية وبيع منشوراتها لتكون بذلك مؤسسة مستقلة غير حكومية ويتبع هذه المؤسسة عدة تنظيمات من بينها مجلس معايير المحاسبة الدولية ( IASB) المخول بإصدار معايير التقرير المالية الدولية ( IFRS) والتي أصدرت حتى الآن خمسة معايير إضافية . ويوضح الشكل رقم (4) هيكلية العلاقة بين هذا المجلس وبقية الأطراف(2).
الشكل رقم (4)
هيكلية العلاقة بين مجلس معايير المحاسبة الدولية وبقية الأطراف*
* المصدر:الباحث.
ويتضح من الشكل رقم (4) نجاح جهود التنسيق والتوافق الدولي في الوصول إلى بنية مؤسساتية متوازية في مجال المعايير المحاسبية الدولية وأن هذه الجهود توجهت بتأسيس مجلس معايير المحاسبة الدولية والأجهزة الملازمة له ، تحت إشراف مؤسسة لجنة معايير المحاسبة الدولية عام (2001) . ولكن مجلس معايير المحاسبة الدولية لايزال يواجه مشكلة الإلزام الكامل بهذه المعايير  لغياب القوة القانونية الملزمة على مستوى عالمي.
وبالإضافة إلى ما تقدم ، فإنه يمكن استخلاص مجموعة من الدروس  من التجربة الدولية المشتركة وهي :
1.      يمثل النموذج الدولي المشترك جهودا ضخمة وناجحة في التوفيق بين النموذجين       (الأنجلو أمريكان والقاري) في مجال المحاسبة المالية ، على الأقل على المستوى النظري حاليا.
2.      يمثل النموذج الدولي المشترك مثالًا إضافياً ،واضحاً على ضرورة الترابط بين القانون والمحاسبة ، وذلك لمواجهة مشكلة الالتزام الدولي الكامل بتطبيق المعايير الدولية .
3.      يمثل النموذج الدولي وتطبيقاته مثالا إضافيا واضحا على ضرورة التفرقة في التعامل المحاسبي ، من ناحية ، بين الوحدات الاقتصادية المدرجة في أسواق الأوراق المالية العالمية وفروعها المحلية ( كما هو الحال في العديد من دول السوق الأوربية ) ، ومن ناحية أخرى ، بينها وبين الشركات الخاصة غير المدرجة ( كما هو الحال في العديد من الدول المتقدمة) .
4.      إن إقرار منظمة التجارة والتنمية التابعة للأمم المتحدة [ أن مشكلة صغر حجم أغلب الوحدات الاقتصادية في الدول النامية وقلة الإمكانيات المتاحة ، مع اعتبار أن مجرد تخفيض متطلبات الإفصاح في معايير المحاسبة الدولية لا يمثل حلاً كافيا] . يسمح للدول النامية بالتدرج في تطبيق معايير المحاسبة الدولية .
المحور الثاني : التجربة الليبية
قبل قيام الدولة الليبية ، تعرضت ليبيا إلى الاحتلال من جهات مختلفة هي : العثماني  (1551 – 1911 ) ، الإيطالي ( 1911 – 1945) والإدارة المشتركة لكل من بريطانيا وفرنسا  (1945 – 1951) . وقد تميزت هذه الفترات بعدم وجود أرضية مستقرة لتبلور فكر محاسبي ليبي ، وأن أغلب الممارسات في مجال المحاسبة اقتصرت على الأجانب وفقا لقوانين وتشريعات ومبادئ مستوردة وأن العنصر الليبي كان خارج دائرة الضوء لعدة أسباب منها الأوضاع الاستعمارية ، مشكلة اللغة ، ضعف المستوى التعليمي للمواطنين ، علاوة على أن طبيعة الأنشطة الاقتصادية السائدة لا تخرج عن كونها تجارية ، خدمية ، زراعية وتربية مواشي في شكل أنشطة فردية صغيرة .
ومنذ الاستقلال عام  (1951) وحتى اكتشاف النفط عام (1959) استمرت أوضاع الاقتصاد الليبي على حالها وقد اعتبرت ليبيا من أفقر دول العالم مادياً وبشرياً ، وذلك وفقا لتقارير الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي عن تلك الفترة . وفيما يتعلق بالعنصر البشري ، فإن الاستعمار الإيطالي ، بطبيعته كاستعمار استيطاني ، لم يقوم بأية جهود لتجهيز الليبيين لإدارة بلادهم من خلال التعليم والتدريب الفني للمواطنين . وقد أدت هذه الأوضاع إلى نقص حاد في الكوادر الفنية والمالية والإدارية وندرة القوى العاملة المدربة .
وفي ظل هذه الظروف ، صدر القانون التجاري الليبي لسنة (1953) من ضمن سلة من القوانين في مجالي القانون العام والقانون الخاص ، ذلك كمحاولة لتطوير التشريعات النافذة في البيئة الليبية . ومن المعلوم ، أن أغلب القوانين التي صدرت في تلك الفترة أعدت على أيدي خبرات عربية غير مقيمة ( مصرية ، لبنانية ، عراقية ..الخ ) لا تتوفر لديهم دراية كافية بظروف البيئة الليبية وبدون مشاركة فريق مناظر من الخبرات الليبية لعدم توفر هذا المستوى من الخبرات ، على الأقل بشكل كافي في ذلك الوقت . ولهذا فإن أية طفرة في المستوى التشريعي في مجال المحاسبة نتيجة لصدور القانون التجاري الليبي عام (1953) لا يمكن النظر إليها على أساس أنها تمثل استجابة لمتطلبات وتفاعلات البيئة الليبية . وفي الحقيقة ، فإن المعني الحقيقي للنصوص الواردة بالقانون التجاري الليبي  ، فيما يخص المجال المحاسبي ، مازالت غير مفهومه لدى شريحة كبيرة في المجتمع الليبي .
وبدون الدخول في كثير من التفاصيل ، فإن القانون التجاري الليبي لسنة (1953)(*) طرح نموذجا محاسبيا متكاملاً في مجال المحاسبة المالية تمتد جذوره إلى النموذج القاري ، وبالأخص التجربة الفرنسية . وينطلق هذا النموذج من نقطة مهمة وهي :
الفصل بين الأنشطة الاقتصادية وفقا للأوضاع القانونية للقائمين عليها (الملاك) من حيث المسؤولية أمام الغير وبحيث توزع الأنشطة الاقتصادية إلى نوعين هما :
1.      أنشطة اقتصادية يقوم بها فرد ( مشروعات فردية) أو شركة تضامن ( شركات أشخاص) تكون فيها مسئولية المالك ( أو الملاك) غير محدودة بحدود المساهمة في رأس المال [ الاستثناء الوحيد خاص بصغار التجار حسب المادة (12)] .
2.      أنشطة اقتصادية  تقوم بها شركات مساهمة ، شركات توصية بالأسهم وشركات ذات مسئولية محدودة وتشترك جميع هذه الشركات في كون مسئولية ملاكها محدودة بحدود المساهمة في رأس المال [ الاستثناء الوحيد خاص بشركات صغيرة جدا حسب المادة (632)].
فبالنسبة للنوع الأول ( مشروعات فردية / شركات أشخاص ) ، فقد خصص القانون التجاري الليبي المواد من (58) إلى (64) للدفاتر والملفات المحاسبية التي يجب الاحتفاظ بها وتكون حجة أمام المحاكم متى استوفت الشروط المطلوبة . كما ألزم القانون التجاري هذه الفئة بإتمام إجراءات التسجيل في السجل التجاري مرفقاً بالتوقيعات المعتمدة وخصَّ شركات الأشخاص بضرورة وجود عقد تأسيس مكتوب يحدد العلاقات القانونية بين الشركاء ، مع تحديد بعض القواعد العامة الواجب الالتزام بها ،( أنظر المواد من 455 إلى 465 ).
وعليه، فإن المحاسبة على مستوى المشروعات الفردية وشركات الأشخاص لم توضع لها قواعد محاسبية مفصلة خارج نطاق المذكور أعلاه . وفي هذا الخصوص ، فإن موقف المشروع يستند إلى أن الوحدات الاقتصادية ، في ظل هذا النوع من الملكية ، لا ترقى لأن تكون كيانا قانونيا مستقلا عن الملاك بحكم عدم محدودية مسئولية المالك أمام الغير ، علاوة على أن التغير في الشركاء يؤدي إلى انتهاء شركة الأشخاص من الناحية القانونية ويتطلب استمرارها إجراء تعاقد جديد . هذه الخواص تفتح المجال واسعا أمام تطبيق القانون المدني والذي يمثل الشرع العام الذي يحكم العلاقة بين الأفراد والمنظمات الخاصة فيما يتعلق بالتصرفات التجارية التي لا يوجد فيها نص واضح في القانون التجاري . ولهذا ، فإن المشرع ترك الباب مفتوحا بالنسبة لأعمال المراجعة أو المراقبة في مثل هذه الوحدات الاقتصادية ما لم ينص عليها في عقد تأسيس شركات الأشخاص ( كمراجعة مالية اختيارية).
أما بالنسبة للنوع الثاني ( شركات مساهمة ، شركات توصية بالأسهم والشركات ذات المسئولية المحدودة ) ، فإن القانون التجاري الليبي تطرق للمحاسبة بشكل مختلف جذريا وقد اعتبر الشركات المساهمة هي الأساس في تحديد مجال العمل المحاسبي وأن بقية الشركات تمثل حالات خاصة منها وتخضع لنفس الإجراءات التنظيمية والمحاسبية بشكل عام .
ونظرا لأن مسئولية الملاك ، في هذا النوع من الشركات ، محدودة بحدود مساهمتهم في رأس المال وهذا يعني ، من الناحية القانونية ، انفصال الذمة المالية للشركة عن الذمة المالية للملاك ، علاوة على أن هوية الملاك قد تتغير بدون حل الشركة ، فإن المشرع أعطى للمحاسبة دور مهم تلعبه في تنظيم العلاقات القانونية والمالية بين الشركة والإدارة والملاك وأصحاب الالتزامات وغيرهم من الأطراف بما في ذلك الصالح العام . فبالإضافة إلى المتطلبات التنظيمية مثل الحصول على إذن مسبق من الجهات المعنية وتحرير عقد رسمي ووضع النظام الأساسي والاكتتاب في كل رأس المال ودفع ما لا يقل عن ثلاثة أعشار رأس المال نقدا والتسجيل لدى مكتب السجل التجاري وإشهار الشركة ، فإن القانون التجاري حدد من ضمن هيئات هذا النوع من الشركات هيئة تحت اسم " هيئة المراقبة " خصص لها المواد من (547) حتى (559) للقيام بمهام الرقابة القانونية والإدارية والمالية ، علاوة على التصديق على صحة نتيجة السنة المالية والميزانية مرفقا معها أية اقتراحات في شأن سير أعمال الشركة ، وذلك عند عرضها على الجمعية العمومية للتصديق النهائي ( أنظر المادة 580) . وفي متن نصوص هذه المواد ذكرت هيئة المراقبة باسم لجنة المراقبة .
وفيما يلي عرض مختصر لأهم ركائز النموذج المحاسبي ، في هذا النوع من الشركات ، وفقاً لنصوص القانون التجاري الليبي ، مع مراعاة أن القانون صدر في عام (1953) :
1.      الدفاتر والملفات الخاصة والسجلات الواجب مسكها ومدة الاحتفاظ بها وحجتها أمام المحاكم متى استوفت الشروط القانونية { أنظر المواد من (58) حتى (64)  و (570) .
2.      تحديد محتويات الميزانية تحت اسم أقلام مبوبة في ثلاث مجموعات هي : أصول ، خصوم ومشتركة . ولا تجري المقاصة بين أقلام الميزانية مطلقا ، مع عدم الإخلال بالقوانين الخاصة بالشركات التي تمارس نشاطا معينا . { انظر المادة (573 ) .
3.      تحديد واضح لاختصاصات ومسئوليات جهاز رقابي أطلق عليه القانون اسم لجنة المراقبة ( هيئة المراقبة) تعينه الجمعية العمومية ومستقلا عن مجلس الإدارة للقيام بمهام الرقابة القانونية والإدارية والمالية . [ أنظر المواد من (547) حتى (559)).
4.      تحديد واضح لمجموعة من القواعد التي تحكم عملية القياس المحاسبي والتي يجب مراعاتها والإفصاح عن الأسباب التي دعت لعدم الالتزام بها ، مع ضرورة موافقة لجنة المراقبة على عدم الالتزام . وفي الحقيقة ، فإن هذه القواعد تمثل معايير محاسبية في صياغة قانونية وردت أغلبها في حدود المواد من (574) حتى (594) وأن المادة رقم (574) وحدها تحتوي على سبعة معايير محاسبية منفصلة .
5.      على لجنة المراقبة التأكد عن طريق الجرد الدوري من وجود ما للشركة من قيم مالية وسندات سواء كانت ملكا لها أو مرهونة لديها أو محفوظة على أساس الضمان أو الحراسة ويجوز للمراقبين ولو على انفراد أن يقوموا في أي وقت بتفتيش الشركة ومراقبتها [ أنظر المادة (553).
6.      يؤكد القانون على ضرورة الالتزام بفرض الدورية عند إعداد التقارير المالية ، وذلك بإلزام الشركات على إعدادها في حدود أربعة أشهر من انتهاء الدورة المالية للشركة ، مع جواز أن ينص في عقد التأسيس على مدة أطور بشرط أن لا تتجاوز ستة أشهر من انتهاء الدورة المالية للشركة ، وذلك للتصديق على الميزانية وغيرها من أعمال الجمعية العمومية الاعتيادية . [ أنظر المادة (516)] .
7.      يفرض القانون على المديرين (مجلس الإدارة ) أن يطلعوا المراقبين على الميزانية وعلى تقريرهم مع ما يتبعها من وثائق ومستندات خلال ثلاثين يوما على الأقل قبل اليوم المحدد لانعقاد الجمعية العمومية التي ستتناول البث في شأنها . كما يجب على لجنة المراقبة أن تعرض على الجمعية العمومية تقريراً عن نتيجة السنة المالية تبين فيه رأيها واقتراحاتها في شأن سير أعمال الشركة وصحة حساباتها والميزانية والتصديق عليها [ أنظر المادة (580) ]
8.      كما أن القانون يفرض على المديرين (مجلس الإدارة ) أن يقوموا بإيداع صورة من الميزانية مرفقة بتقاريرهم وتقرير لجنة المراقبة ومحضر تصديق الجمعية مكتب السجل التجاري خلال ثلاثين يوما من التصديق عليها [ أنظر مادة (583) ]
مما تقدم يتبين وبوضوح أن المحاسبة المالية أخذت نصيبها ، من الناحية التشريعية ، وبشكل غير عادي في القانون التجاري الليبي لسنة (1953) كما أن مصطلح " مراجع خارجي" لم يرد على الإطلاق في ذلك القانون ، لأن المشرع اعتبر أن مهامه ومسؤولياته تدخل ضمن مهام لجنة المراقبة ، وفقا للنموذج الفرنسي في ذلك الوقت وكذلك وفقا لمضمون نص المادة رقم (557) الواردة في القانون التجاري الليبي بشأن مسئولية المراقبين وغيرها من المواد ذات  العلاقة بمهام لجنة المراقبة .
وبالرغم من أن هذا القانون مازال ساري المفعول ، فإن المتتبع لواقع التطبيق المحاسبي في ليبيا ، يمكن أن يلاحظ وبسهولة ما يلي :
1.      وجود بيئة محاسبية مخالفة للنصوص القانونية الواردة في القانون ، مع وجود بعض الاستثناءات الشكلية مثل الالتزام بالدفاتر والسجلات القانونية ووجود شكلي للجان المراقبة في أغلب الشركات المساهمة وبقية شركات الأموال الأخرى وكذلك الالتزام ببعض من الإجراءات التنظيمية الأخرى .
2.      إن نوعية المعلومات المحاسبية التي يمكن الحصول عليها من التقارير المالية السائدة في أغلب الشركات الليبية ، وبالأخص من منظور المحاسبة المالية المعاصرة ، لا تخرج عن كونها ناقصة ، غير موثوق فيها ، غير مناسبة من حيث التوقيت وغير قابلة للمقارنة وبالتالي غير صالحة لأغراض التحليل واتخاذ القرارات ( التشغيلية / التمويلية / الاستثمارية / الرقابية) وهذا يعني ببساطة فشل الممارسات المحاسبية بما في ذلك أعمال المراجعة المالية في تقديم معلومات محاسبية ذات جودة عالية .
وعليه، فإن أوضاع المحاسبة المالية في ليبيا تعاني من معضلة التعارض مع القانون ، علاوة على الفشل في تقديم تقارير مالية مفيدة ، على الأقل من منظور المحاسبة المالية المعاصرة. وهنا يدفع الباحث بأن التعامل مع معضلة التعارض مع القانون أهم وأجدى من محاولة البحث عن أسباب فرعية أخرى لتعثر المحاسبة المالية . وهذا الدفع تدعمه مجموعة من المنطلقات نلخصها فيما يلي :
1.      عند طرح التجربة الأمريكية تبين أهمية دور القانون في تطوير النموذج المحاسبي الأمريكي وذلك من خلال دور لجنة تداول الأوراق المالية ( SEC) التي تأسست بقانون (1933) ، الذي يتضمن تفويضا لها بتحديد شكل ومحتوى التقارير ( المالية وغير المالية) المقدمة إليها ، ومساهمتها في إثراء معايير المحاسبة المالية وتطوير آليات إعدادها ولو بطريقة غير مباشرة .
2.      عند طرح التجربة الفرنسية تبين أهمية دور الدولة في تطوير النموذج المحاسبي الفرنسي وذلك من خلال تنظيم العمل المحاسبي وإصدار قواعد القياس والإفصاح في شكل قوانين وتشريعات ملزمة في ظل إطار يسمح بقدر من المرونة .
3.      يعتقد الباحث أن المحاسبة في ليبيا كان من الممكن أن تكون في أحسن أحوالها لو فعلت العوامل البيئة المساعدة على تطبيق المتطلبات القانونية في الواقع العملي ، مع تطويرها من حين إلى آخر أسوة ببقية دول العالم .
4.      إن للمحاسبة كمهنة علاقة خاصة بالقانون لكونها تمثل أداة تنفيذية لمجموعة من القوانين المهمة ، علاوة على حاجة منتسبها للحماية القانونية من أية ضغوط غير سوية.
5.      من أهم المشاكل الحالية التي يواجهها نموذج المحاسبة الدولية في التطبيق العملي تتلخص في غياب إطار قانوني دولي ملزم لتنفيذ المعايير المحاسبية الدولية .
          وعليه فإن لمشكلة التعارض بين القانون والمحاسبة أولوية في معالجة مشاكل المحاسبة المالية في ليبيا . وفي هذا الاتجاه ، فإنه يمكن إعادة صياغة هذه المشكلة ، بمنظور عام ، على أنها مشكلة قانونية عامة ( ذات أبعاد محاسبية ) تخص جميع سلطات الدولة التقليدية (تشريعية ،  تنفيذية وقضائية ) كممثلة للمجتمع بكافة أطرافه .
ومن هذا المنظور ، فإنه يمكن النظر إلى القوانين المتعلقة بالمحاسبة على أنها صياغات قانونية تعبر عن السياسة العامة للمجتمع في مجال المحاسبة وأن عدم تنفيذها يعني ببساطة غياب السياسة العامة للمجتمع في مجال المحاسبة . وفي هذه الورقة ، يقصد بالسياسة العامة في مجال المحاسبة المالية البوصلة التي يسترشد بها الفكر والعمل المحاسبي في مسيرة تطوره وتطور أدواته وبالشكل الذي يحقق غايات المجتمع .
ومن هذا المنطلق ، فإن الجزء المتبقي من هذه الورقة يمكن تخصصيه لفحص أهم المفاصل في مسيرة المحاسبة المالية في البيئة الليبية ، مع الالتزام بربطها بالتجارب الدولية في مجال المحاسبة حتى تكون في حدود نطاق هذه الورقة . ولأغراض تنظيمية فإن عرض هذه المفاصل يمكن تحقيقه على ثلاث مستويات هي : (أ) المستوى التشريعي ، (ب) المستوى التعليمي والتأهيل المهني  ، ( ج ) المستوى المهني .
أ )  المستوى التشريعي  :
تحدثنا فيما سبق عن مدى نضوج النموذج المحاسبي المطروح في القانون التجاري الليبي لعام (1953) وأن إعداده تحقق بفضل جهود مجموعة من الخبرات العربية غير المقيمة. كما أكدنا على أن النموذج المطروح لم يكن استجابة لمتطلبات وتفاعلات آنية في المجتمع الليبي وأن الأنشطة الاقتصادية لا تخرج عن كونها مشروعات فردية صغيرة ، مع اعتماد الدولة الليبية على المنح والمساعدات الدولية . وقد استمرت هذه الأوضاع حتى اكتشاف البترول عام (1959)، مما يعني أن النموذج المحاسبي المطروح ولد ليوضع في الإدراج ، على الأقل في مجال العمل المحاسبي ، لعدة سنوات قادمة ، مع بعض الاستثناءات ذات الطابع التنظيمي وأخرى منعزلة وبالتالي غير ذات فعالية .
وفيما يخص مجال المحاسبة المالية في القانون التجاري الليبي ، فإن التعديلات اللاحقة لهذا القانون ، التي تتطلب الوقوف عندها تتلخص في نقطتين هما :
موقف المشرع الليبي من تأهيل أعضاء لجنة المراقبة .
موقف المشرع الليبي من مصطلح " المراجع الخارجي"
وفيما يخص النقطة الأولى ، فإن قانون (1953) لم يحدد بشكل واضح نوعية وطبيعة تأهيل أعضاء لجنة المراقبة حيث اكتفت المادة رقم (547) بالنص على أن :      
" تشكل لجنة مراقبة من ثلاثة أعضاء عاملين أو خمسة سواء كانوا مساهمين أم غير مساهمين . ويجب أن يعين اثنان احتياطيان "
هذا الغموض ، دفع الكاتب إلى التحري عن تأهيل أعضاء لجنة المراقبة في قوانين الدول التي ينتمي إليها الأعضاء المشاركين في إعداد سلة التشريعات الليبية في ذلك الوقت ، وبالأخص اللبناني والمصري .
فالقانون التجاري اللبناني لسنة (1942) خصص المواد (172-178) لمفوضي المراقبة وتنص بعض من هذه المواد على ما يلي (1(:
مادة (172( :
" تعين الجمعية التأسيسية ثم الجمعيات العادية التي تليها مفوضا أو عدة مفوضين للمراقبة ولا يجدر أن يستمروا في وظيفتهم إلا سنة واحدة على أنه يمكن تجديد انتخابهم ."
مادة (173 ( :
" ويضم إليهم مفوض إضافي يختار من خبراء الحسابات لدى المحكمة البدائية وتكون له نفس السلطة ونفس المرتب " .
مادة (175( :
" يضع المفوضون تقريراً للجمعية العمومية عن حالة الشركة وموازنتها والحسابات التي قدمها أعضاء مجلس الإدارة وعن الاقتراحات المختصة بتوزيع أنصبة الأرباح وإذا لم يقدم هذا التقرير فإن قرار الجمعية العمومية المختص بتصديق الحسابات يكون باطلا".
في حين ، خصص قانون الشركات المصري الصادر عام (1954) المواد (51-54) وتنص بعض من هذه المواد على ما يلي(2(
مادة (51( :
"1 .  يكون لشركة المساهمة مراقب حسابات أو أكثر من الأشخاص الطبيعيين تعينه الجمعية العمومية وتقدر أتعابه . وفي حالة تعدد المراقبين يكونون مسئولين بالتضامن . واستثناء  من ذلك يعين مؤسسو الشركة المراقب الأول ..."
مادة (52(
"يجب أن تتوافر في مراقب الشركة الشروط المنصوص عليها في القانون رقم (123) لسنة (1951) الخاص بمزاولة مهنة المحاسبة والمراجعة .."
وعليه، فإن القانونين اللبناني والمصري نصا على أن يكون عدد المراقبين واحد أو أكثر وهذا يختلف عن القانون الليبي الذي تبنى وجهة نظر القانون الفرنسي بالخصوص . وفيما يخص التأهيل ، فإن القانون اللبناني  أكد على ضرورة إضافة مفوض يختار من خبراء الحسابات لدى المحكمة ، في حين ، تشدد المشرع المصري باشتراط توفر الشروط المنصوص عليها في القانون الخاص بمزاولة مهنة المحاسبة والمراجعة لمن يشغل وظيفة مراقب .
أما في القانون الليبي رقم (65) لسنة 1970، بشأن إقرار بعض الأحكام الخاصة بالتجار والشركات التجارية والإشراف عليها ، فقد حاول المشرع الليبي تقديم إيضاح فيما يخص تأهيل أعضاء لجنة المراقبة في المادة رقم (13) والتي تتطلب في أن يتوفر لدى أحد أعضاء لجنة المراقبة على الأقل الخبرة بالشئون المالية أو المحاسبية . وفي الواقع ، فقد فسر هذا الإيضاح في أضيق الحدود وبدون ربطة بضرورة التأهيل المهني في مجال المحاسبة ، كما هو الحال في القوانين اللبناني والمصري .
وبالرغم من أن هذا الموضوع قد يبدو للبعض غير جدي ، فإن الباحث يؤكد بأن هذا الموضوع يمثل أهم الأسباب التي أدت إلى تفاقم معضلة التعارض بين القانون التجاري الليبي والأداء المهني في مجال المحاسبة المالية وكذلك أدى إلى الكثير من المناقشات الحادة على المستويين التنفيذي والأكاديمي وله ارتباط وثيق بموضوع النقطة اللاحقة .
أما فيما يخص النقطة الثانية ، فإن القانون التجاري لسنة (1953) لم يتطرق على الإطلاق لمصطلح " المراجع الخارجي" والذي يعتبر ، على الأقل في ذلك الوقت ، من المصطلحات المهمة في تطوير النموذج الأنجلو أمريكان الذي يعتبر المحاسبة مجال معرفة مستقل ويجب أن يتطور في ظل القطاع الخاص وبالتالي فإن تنظيم المحاسبة وتطوير معايير القياس والإفصاح المحاسبي يجب أن يكون بعيدا عن القانون ، وحتى من تدخل الدولة بشكل مباشر . كما أن أعمال المراجعة المالية يجب أن يقوم بها مراجع معتمد من خارج الوحدة الاقتصادية ويتمتع باستقلالية ويلتزم بآداب وسلوك المهنة ، وعلى أن تكون وظيفته التأكد من صحة ودقة البيانات المنشورة في القوائم المالية السنوية ومن التزام الوحدة الاقتصادية بتطبيق المبادئ المحاسبية المتعارف عليها . كما أن على المراجع الخارجي الالتزام بمجموعة القواعد والمعايير المتعلقة بأعمال المراجعة المالية . في حين ينطلق النموذج القاري والذي يمثل المدرسة الفكرية التي يستند عليها القانون التجاري الليبي ، من أن أعمال المراجعة المالية تدخل في صلب مهام لجنة المراقبة وأن من اختصاصات الدولة تنظيم المهنة ووضع قواعد القياس والإفصاح المحاسبي في شكل قوانين وتشريعات ، في ظل سيطرة البعد الاجتماعي من خلال اعتبار المجتمع هو المستخدم الرئيسي للقوائم المالية وأن مسئوليات لجنة  المراقبة تمتد لتشمل القيام بمهام الرقابة القانونية والإدارية والمالية ، مع التصديق على القوائم المالية السنوية . وهنا يجب التأكيد على الارتباط بين هذه النقطة والنقطة التي سبقتها، حيث تبين أن المشرع اللبناني والمشرع المصري تفادي الوقوع في هذه الهوة ، في حين ، وقعت مهنة المحاسبة في ليبيا فريسة لها ، كما سنرى عند تناول مستوى التعليم والتأهيل المهني والمستوى المهني .
وبالنسبة للتعديل في القانون التجاري الليبي ، والمتعلق بالمراجع الخارجي ، فقد تضمنه القانون رقم (21) لسنة 2001 بشأن تقرير بعض الأحكام في مزاولة الأنشطة الاقتصادية حيث نصت المادة رقم (4) على ما يلي:
" تخضع حسابات الشركات المساهمة وميزانياتها للمراجعة المالية قبل عرضها على الجمعية العمومية للاعتماد ، وتتولى الجمعية العمومية للشركة تحديد مكتب المراجعة القانونية الذي يتولى ذلك "
وحسب اللائحة التنفيذية لهذا القانون الصادرة بقرار اللجنة الشعبية العامة رقم (49) لسنة (2002) في المادة رقم (26) والتي تتطلب أن يتضمن عقد تأسيس الشركة المساهمة . ونظامها الأساسي : تحديد المراجع الخارجي لها ، كما أن التعديل المتعلق بالقانون رقم (21) لسنة (2001) والصادر بالقانون رقم (1) لسنة (2004) حدد أدوات مزاولة الأنشطة الاقتصادية وفقا لما يلي :
1 .      نشاط الأفراد              2 .      النشاط الأسري
3 .      التشاركيات                4 .      الشركات المساهمة بما في ذلك القابضة .
5 .      المؤسسات والشركات العامة 
وقد أعطى للجنة الشعبية العامة الحق بإضافة أي نوع من الشركات والمؤسسات الأخرى لممارسة الأنشطة الاقتصادية .
وبهذه التعديلات وغيرها ، بدأ القانون التجاري لسنة (1953) يدخل مرحلة عدم التوازن وبدون رؤية واضحة تكون قادرة على قراءة أثر أي تعديل على بقية أجزاء القانون ، على الأقل فيما يخص مجال المحاسبة . وهذه الرؤية تتطلب وضع سياسة عامة محددة المعالم والأهداف في مجال المحاسبة المالية يتبلور عنها صدور قانون جديد خاص بالمحاسبة تحت اسم " قانون المحاسبة " أسوة بالعديد من دول العالم التي سبقتنا في هذا المجال ، على أن يتضمن هذا القانون آليات واضحة للمتابعة والإشراف وقنوات تسمح للفئات المعنية بالمجتمع الليبي في المساهمة في إثراء الفكر والعمل المحاسبي لخدمة الصالح العام .
بالإضافة إلى ما تقدم ، فإن صدور القانون رقم (1) لسنة (2005) بشأن المصارف ألزم جهاز الرقابة المالية والفنية مراجعة حسابات المصرف وفقا لطبيعة نشاط المصارف المركزية ، والمعايير الدولية المقررة في مجالي المراجعة والمحاسبة (مادة 25) . وينطبق ذلك حتى على المصارف التجارية ، وفقا للنظام الأساسي لهذه المصارف.
ب)  المستوى التعليمي والتأهيل المهني :
مع بداية السبعينات من القرن الماضي ولمقابلة توسع  جهود الدولة الليبية في مجال التعليم المحاسبي ، فتحت الدولة أمام مؤسساتها التعليمية وغيرها من المؤسسات مجال الإيفاد للخارج لأغراض التدريب والدراسات العليا في مجال المحاسبة . وفي هذا الاتجاه ، تمكنت الدولة خلال الخمسة عقود الماضية من إنفاق مبالغ هائلة على قطاع التعليم في العديد من المجالات المهنية من بينها المحاسبة على المستويين الداخلي والخارجي . وبحكم تركيز بعثات الدراسات العليا في مجال المحاسبة على الساحتين الإنجليزية والأمريكية سابقا وحتى وقتنا الحاضر ، فقد تأثر التعليم المحاسبي وبشكل كبير بالمدرسة الفكرية الممثلة في النموذج الأنجلو أمريكان والذي يعتبر الأغنى والأعمق في مجال الأدب المحاسبي . هذه الحقيقة ، ساهمت في خلق فجوة بين الفكر السائد في مجال التعليم المحاسبي ومتطلبات القانون التجاري الليبي لسنة (1953) التي ترجع أصولها إلى المدرسة الفكرية الممثلة في النموذج القاري ،  بالأخص التجربة الفرنسية ، وقد أدت هذه الحقيقة إلى نوع من فقدان التوازن في المنطلقات الفكرية للتعليم المحاسبي عند الحكم على متطلبات القانون التجاري ومحاولة فهم نصوصه . كما أن التأثير التراكمي لهذه الحقيقة ، أدى إلى ثلاثة مضاعفات أرهقت كل من الفكر والعمل المحاسبي في ليبيا وهي :
1.      ساهمت في عدم ووضوح الرؤية المستقبلية فيما يخص السياسات التعليمية في مجال المحاسبة
2.      أفقدت المحاسبة قدرا من الضبط والحماية القانونية هي أكثر احتياجا إليه في ليبيا كدولة نامية .
3.      أفقدت المحاسبة في ليبيا فرصة التطور التدريجي من خلال إجراء التعديلات اللازمة وبمرور الوقت انطلاقا من قانون مفصل ترجع جذوره إلى مدرسة فكرية لها سند تاريخي .
كما أن اتجاه التعليم المحاسبي في ليبيا نحو النموذج الانجلو أمريكان يستدعي الوقف عند تعريف مهنة المحاسبة وأساليب تعليمها .
وفي هذا الخصوص ، يمكن الانطلاق من أن التجهيز المهني لأي مهنة في مستوى مهنة المحاسبة ، كالطب ، الهندسة ، والمحاماة ، ..الخ ، يتطلب نوعين من التجهيز هما(1) :
التجهيز على المستوى النظري ، وهذا يتطلب الاعتراف بالمهنة كمجال معرفة مستقل من قبل المؤسسات التعليمية كالجامعات والمعاهد لتغطية الجانب النظري ، مع الاستعانة بالتطبيقات الافتراضية . وهذا المستوى تحقق فعلا على الساحة الليبية في مجال المحاسبة من خلال العديد من المؤسسات التعليمية المختلفة .2
التجهيز على مستوى التأهيل المهني ، وهذا يتطلب الاعتراف بالحاجة إلى التأهيل المهني والذي يمكن أن يتحقق بأساليب مختلفة تتوقف على تعقيدات المهنة . فبالنسبة للتجربة الأمريكية ، تطلب الأمر الدمج بين قدرا من التجهيز على المستوى النظري والتجهيز على مستوى التأهيل المهني في المناهج التعليمية الجامعية والمعاهد المتخصصة في مجال المحاسبة ، مع عقد امتحانات خاصة بالتأهيل المهني تحت إشراف أكاديميين ومتخصصين . وتوجد في أمريكا وبريطانيا معاهد متخصصة في منح شهادات التأهيل المهني والتراخيص بمزاولة المهنة والتي تشترط الحصول المسبق على شهادة من معاهد وجامعات معترف بها.
وهذا الجانب لم يتحقق على الساحة الليبية بالشكل المطلوب ، حيث لا توجد امتحانات تأهيل مهني وأن التعليم الجامعي يستند على المبادئ المحاسبية المتعارف عليها (GAAP) في الكثير من الحالات العملية . وبذلك أصبحت التجربة الأمريكية جزء من هيكلية التعليم المحاسبي والتأهيل المهني ، غير أن التعليم المحاسبي في ليبيا لم يستكمل دورته في المجالين النظري والتأهيل المهني .
ج)  المستوى المهني :
لا شك في أن للفجوة بين القانون والتعليم المحاسبي انعكاسات سلبية على الأداء المهني . فمن ناحية ، يمثل القانون الضوابط العامة التي يجب أن يخضع لها الأداء المهني ، في حين ، يمثل التعليم المحاسبي المصدر الرئيسي للموارد البشرية في مجال المحاسبة . ومن ناحية أخرى، فإن هناك ارتباط بين المحاسبة ( كأداة تنفيذية ) وتطبيق العديد من القوانين المهمة.
وفي بداية السبعينيات من القرن الماضي، أخذت وزارة الخزانة على عاتقها إصدار رخص مزاولة مهنة المحاسبة والمراجعة للراغبين ، مع اشتراط الحصول على شهادة جامعية في مجال المحاسبة وخبرة عملية لمدة سنتين . وقد شهدت هذه الفترة تحرك في الأنشطة الاقتصادية تأثرا بعائدات النفط ، علاوة على تخرج دفعات من المؤسسات التعليمية الليبية في مجالات المحاسبة ، الإدارة والاقتصاد وغيرها ، كما أنه ومع بداية اكتشاف النفط ازدهرت  المحاسبة الحكومية والأجهزة الرقابية في مجال المحاسبة .
وبصدور القانون رقم (116) لسنة (1973)، أصبح للمهنة نقابة تمثلها تحت اسم " نقابة المحاسبين والمراجعين الليبية " والتي تسعى لتحقيق عدة أغراض منها تنظيم شئون المهنة والنهوض بها ،و توحيد كلمة الأعضاء والمحافظة على حقوقهم والدفاع عن مصالحهم المشروعة ،و تأديب من يخرج عن واجبات المهنة وتقاليدها .
وبالرغم مما بذل من جهود في تحقيق هذه الأغراض ، إلا أن المهنة تعرضت للعديد من الظروف والأوضاع البيئية أثرت بشكل سلبي على حصيلة مساهمتها في الرفع من شئون المهنة . هذه الظروف والأوضاع يمكن تلخيصها في شكل نقاط رئيسية كما يلي :
إن غياب قواعد قياس وإفصاح محاسبية متفق عليها ومكتوبة ومدمجة في هيكلية التعليم المحاسبي وتتناسب مع الإمكانيات والظروف الليبية ، لا تخرج عن كونها ظاهرة تعبر عن غياب وعي ثقافي بأهمية دور المحاسبة في اتخاذ القرارات الاقتصادية ، وفي نفس الوقت ، يفقد المهنة أهم ركائز تقييم أدائها المهني ويفتح الباب أمام الاجتهادات الشخصية غير المدروسة والتي قد تؤدي إلى المساءلة القانونية .
إن رفع مستوى الأداء المهني يتطلب أيضا الالتزام بقواعد للسلوك المهني ومعايير أداء لأعمال المراجعة ، ويدخل إعدادها من ضمن اختصاصات المهنة ، لم تبذل فيها جهود تذكر نظراً لعدة ظروف من بينها فترة الركود بين (1980-2000)، نتيجة لسيطرة القطاع العام على الأنشطة الاقتصادية وسيطرة الأجهزة الرقابية العامة على إدارة أنشطة المهنة  ( من حيث تحديد الأعمال والأتعاب)، مما أدى إلى إحجام الكثير من المهنيين ذوي التخصصات العالية وغيرهم عن مزاولة المهنة.
من متطلبات تحسين الأداء المهني الدخول في العديد من المجالات مثل تصميم نظم المحاسبة ( يدوي وآلي) ونظم التكاليف وأنظمة الرقابة الداخلية والدراسات المتعلقة بتخصيص الموارد الاقتصادية والمساهمة في وضع السياسات ،  وذلك بدلا من التركيز على المراجعة المالية للقوائم التقليدية . غير أن المتتبع لواقع الأنشطة المهنية في ليبيا يلاحظ وجود قصور واضح في أغلب المجالات المذكورة أعلاه نتيجة لتدني الطلب على المحاسبة ، خارج الحدود التقليدية .
إن غياب سياسة عامة واضحة المعالم والغايات في المجال المحاسبي أدى إلى العديد من التراكمات السلبية نذكر منها ما يلي :
1.      عدم التنسيق بين المتطلبات القانونية والتعليم المحاسبي ومهنة المحاسبة لتحقيق غايات محددة مسبقا .
2.      إن غياب التنسيق أدى إلى أوضاع بيئية غير منتجة وغير قادرة على تطوير الفكر والعمل المحاسبي لتحقيق غايات منشودة .
3.      إن غياب سياسة عامة أدى إلى تجاهل آليات مهمة في مجال الفكر والعمل المحاسبي لها آثار مهمة على التطور المستقبلي أسوة بتجارب الدول الأخرى ، مثل بيئة مؤسساتية متوازنة في مجال وضع معايير للمحاسبة المالية . وفي هذا الخصوص، فإن محاولة المهنة ( ممثلة في النقابة ) وضع معايير المحاسبة الليبية في نهاية عام (2006) ستؤدي إلى الوقوع في نفس الخطأ الذي وقع فيه المشرع عام (1953) وهو الاجتهاد في المجال المحاسبي بمعزل عن الظروف البيئية المحيطة ، مع تجاهل حقيقة أن وضع معايير المحاسبة المالية المعاصرة ليس حكرا على فئة معينة من المجتمع  ( مشرعين كانوا أو مهنيين)* . وكنتيجة لهذه المحاولة ، فإن النقابة أدخلت إلى ليبيا النموذج الدولي المشترك و كدفعة واحدة . وهنا يرى الباحث أن واجبه يتطلب التأكيد على أن نموذج المحاسبة الدولية المشترك لا يمثل نموذجا يصلح للتطبيق دفعة واحدة في دولة نامية (مثل ليبيا)، لأن النموذج مصمم لمعالجة حالات خاصة من الشركات تتميز بأنها متعددة الجنسية ، كبيرة الحجم وتطرح أسهمها في أسواق الأوراق المالية العالمية ، مع العلم بأن هذه الشركات على المستوى الأوربي ملزمة فقط بإعداد القوائم المالية المجمعة وفقا للمعايير المحاسبية الدولية .
النتائج والتوصيات :
مما تقدم يمكن استخلاص النتائج التالية :
1.      وفقا لبيئة المحاسبة المالية المعاصرة ، فإن وضع السياسات المحاسبية يمثل   التفاعل بين عدة مدخلات تعكس الظروف الاقتصادية ، توافق عدة عوامل سياسية ( تشمل أطراف مدنية ذات مصالح خاصة وعامة ، أجهزة الدولة ممثلة للمجتمع ) والفكر المحاسبي ممثلا بالمفكرين وأساتذة الجامعات والمؤسسات البحثية خاصة وعامة . وفيما تعكس التجارب الدولية في كل من الولايات المتحدة والجمهورية الفرنسية والنموذج الدولي المشترك (المعايير المحاسبية الدولية) أنماطا من بيئة المحاسبة المعاصرة ، فإن التجربة الليبية في مجال المحاسبة لم تصل بعد إلى الطريق الذي يقود إلى بيئة المحاسبة المعاصرة .
2.      في حين ، يعكس ما توصلت إليه التجربة الأمريكية في مجال المحاسبة المالية نتائج جهود منسقة ومؤسساتية بين القطاع الخاص والدولة ، مع تحمل القطاع الخاص الجزء الأكبر من هذه الجهود ، فإن التجربة الفرنسية تعكس نتائج جهود منسقة ومؤسساتية بين الدولة والقطاع الخاص ، مع تحمل الدولة الجزء الأكبر من هذه الجهود . وفي هذا الخصوص ، فإن التجربة الليبية في مجال المحاسبة تعكس غياب أي نوع من التنسيق بين القطاع الخاص والدولة للرفع من مستوى الفكر والعمل المحاسبي مع غياب الوعي الاجتماعي بأهمية دور المحاسبة المالية في اتخاذ القرارات الاقتصادية مما قلل من الاتجاه نحو الفكر المؤسسي .
3.      بالرغم من تأكيد التجارب الدولية الثلاثة على أهمية الارتباط بين القانون والمحاسبة ولو بدرجات متفاوتة ، فإن التجربة الليبية في مجال المحاسبة تعاني من مشكلة التعارض بين القانون وكل من الفكر والعمل المحاسبي مما ساهم في تعثر المحاسبة في ليبيا .
4.      خلال الستة عقود الأخيرة تعرضت ليبيا لثلاثة غزوات فكرية في مجال المحاسبة المالية وهي : (i) النموذج القاري من خلال القانون التجاري ، (ii) النموذج الانجلو أمريكان من خلال مناهج التعليم و (iii) النموذج الدولي المشترك من خلال نقابة المحاسبين والمراجعين الليبية وهذه الأوضاع تعكس حقيقة غياب سياسة عامة في مجال العمل المحاسبي في ليبيا      [ بيئة تعاني من فراغ محاسبي] وأن معالجة هذه الأوضاع تدخل في صلب اختصاصات الدولة الليبية دون غيرها من فئات المجتمع .
5.      يمثل غياب الوضوح في التوجهات العامة على الساحة الليبية مصدراً لعدم الاستقرار الإداري والاقتصادي وكذلك المحاسبي، مما يعيق مسيرة التطور في جميع المجالات .
6.      إن نموذج المحاسبة الدولية المشترك ، وبدون عملية تكييف مرحلي ، لا يصلح أن يكون نموذجا محاسبيا لدولة نامية حسب تقارير الأمم المتحدة .
          ونظرا لتعقيدات بيئة المحاسبة المعاصرة ،و تعدد النماذج المحاسبية المطروحة في الأدب المحاسبي المقارن وتعثر التجربة الليبية في مجال المحاسبة لدرجة فقدان البوصلة ، فإن التوصية الوحيدة ذات الجدوى هي :
ضرورة العمل على وضع سياسة عامة في مجال المحاسبة المالية تتناول أربعة أبعاد هي:
1.      تحديد مسبق لغايات المحاسبة المالية وبالشكل الذي ينسجم مع تطلعات المجتمع الليبي.
2.      اختيار النموذج المحاسبي القادر على تحقيق هذه الغايات في ظل الظروف البيئة السائدة في المجتمع كلما كان ذلك ممكناً .
3.      تحديد آليات تنفيذية تتضمن الأطر القانونية والبنية المؤسساتية والإجراءات والقواعد التنظيمية القادرة على تفعيل هذه الآليات وضمان تحقيق غايات المجتمع ، بالإضافة إلى آليات متابعة تنفيذ ووسائل تطوير .
4.      وضع البرامج التعليمية ، بما في ذلك برامج التأهيل المهني ، القادرة على توفير العنصر البشري المؤهل مهنياً .
وأخيرا ، فإن الباحث يرغب في تقديم ملاحظة أخيرة وهي :
إن بواعث التجربة الأمريكية في مجال المحاسبة المالية انطلقت من أن التأهيل ، الأخلاق ، الاستقلالية ، الكفاءة والفعالية تمثل ركائز نجاح مهنة المحاسبة ، في حين ، أن التجربة الفرنسية قبلت بكل ذلك ولكن قدمت الالتزام بالقانون أولا كضمان للمصلحة العامة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

كتاب مباديء المحاسبة المالية 2024

للتحميل